وسطَ أمواجِ الظلامِ، وسطَ المطوياتِ المخفيةِ التي لا تظهرُ، والأنينِ الكامنِ الذي لا يرويه ماءٌ، ولا يزيلُ غشاوته بكاءٌ، وسطَ أنهارٍ من دموعٍ جرتْ على صفحةِ الوجهِ جرّاءَ أنينٍ في القلبِ لا أعرفُ منهُ سوى أنهُ باهتٌ بلا ملامحَ، غائصٌ في جسدي بلا معالمَ. جلستُ أبحرُ في ذلك الألمِ الذي تملّكني وجعلني لا أستطيعُ التفوّهَ، ربما تملّكنا جميعًا ولا نستطيعُ البوحَ به لأنهُ أكبرُ من ذلكَ الوصفِ المبسّطِ الذي ما أن نقولهُ حتى تتسعَ فجواتُ الألمِ بداخلنا.
بعضُ الناسِ لا يستطيعُ أن يشعرَ بكَ إلا عندما يرى جرحكَ ينزفُ، وأسهمُ الحياةِ معلقةٌ في جسدكَ تنهشهُ، وأوجاعُ الدُنيا قد مزقتكَ من الخارجِ وأطاحتْ ببُرقةِ عينيكَ فحوّلت بياضَها إلى حُمرةٍ، وكبدَها وقد رُسمَ على وجنتكَ خطوطٌ ملتويةٌ قدّمتكَ في العُمرِ أعوامًا، لا يشعرُ بألمكَ إلا عندما يراكَ هزيلًا شاكيًا له إياه.
هؤلاء لا يعرفونَ للألمِ معنىً حتى ولو عاشوهُ يومًا. هم فقط يتألمونَ.
(الألمُ) هو ضيفٌ لا يفتكُ إلا بأجسادِ المتعبينَ ولا يغادرُ أحدًا إلا تركهُ مرهقًا هشًا لا يقوى على شيءٍ، هو ذلك الشعورُ المظلمُ الذي يأتي جرّاءَ صفعةٍ من صفعاتِ الحياةِ أو طعنةٍ من طعناتِ قاطنيها. هو ذلكَ التلاشي المنبعثُ من تلكَ العبرةِ المخنوقةِ داخلَ قفصٍ حديديٍ مختبئٍ بين قلبكَ وصدرِكَ تحاولُ الخروجَ فتتحوّلُ إلى رجفاتٍ لا يدركها سوى نفسكَ.
هناكَ عالمٌ موازٍ يصنعهُ الألمُ داخلَ الفؤادِ بعيدًا عن كلِّ الصخبِ، عالمٌ على قدرِ ألمهِ فريدٌ ملؤهُ الشجنُ النبيلُ وكأنك تسكنُ بمفردكَ بعيدًا عن ذلكَ الكونِ البائسِ. الألمُ هو أن تقفَ الدموعُ في محجريكَ بغيةَ أن تنسكبَ، تكادُ حينها أن تختنقَ ولا تستطيعُ التنفُّسَ، تحاولُ التخلّصَ منها وذرفَها من جفونِ عينيكَ، هنالكَ شيءٌ لا تعرفهُ يحولُ بينكَ وبينَ البكاءِ، الاختناقُ يتزايدُ، الدموعُ تتراكمُ، غصةٌ في حنجرتكَ لا تدري ما الذي يزيحُها، هل تخرجُ على هيئةِ صراخٍ؟، أم تريدُ أن تعبرَ من عينيكَ حاملةً مرارتها فتخرجَ كلماتٍ على هيئةِ دموعٍ! لا تدري أينَ الحكمةُ حينها، كلُّ ما تعرفهُ هو أنك تريدُ أن تبكيَ ولا تستطيعُ، وكأنَّ الدمعَ المالحَ يأبى الانسيابَ في مواطنِ الجرحِ ليُحيينا.
(الألمُ) هو أن تتركَ جزءًا منك في مكانٍ وتذهبَ بجسدكَ إلى مكانٍ آخرَ فيتمزّقُ داخلكَ إلى أشلاءَ، ولكنكَ تسرّ الناظرينَ من الخارجِ، هو ذلك الشعورُ أنه لا أحدَ يشعرُ بكَ سواكَ، كيف لهم أن يشعروا وأنت تداري أوجاعكَ كأنها عوراتٌ إن كشفتَ فقدتَ بذلكَ طُهركَ وعفافكَ!
(الألمُ) هو ذلك المزجُ بين شعورِ الشجنِ والفقدِ، بين عالمينِ مختلفينَ تجمّعوا بداخلكَ، في حبيبٍ مفقودٍ يحملُ ذكرى جميلةً، ووطنٍ غائبٍ تذهبُ إليه في أحلامكَ ولا تملكُ إلا أن تراهُ حلمًا ضائعًا في يقظتكَ، حتى ولو تسكنهُ وتحيا على أرضهِ فلا أنتَ تملكهُ ولا هو يسكنكَ.
الألمُ هو ذلك الوجعُ الذي لا يستكينُ ولا يغفو برهةً من الزمنِ ليجبركَ بدورهِ على إظهارِ ضحكاتٍ زائفةٍ للتعبيرِ عن سعادةٍ مصطنعةٍ. هو ذلك الزورقُ المثقوبُ الذي لا يقوى على حملِكَ إلى برِّ الشفاءِ، وسطَ أمواجِ البحرِ العاتيةِ، فلا تستطيعُ التخليَ عنهُ كي لا تغرقَ في تيهِ اللامبالاةِ، وقد أتعبكَ التجديفُ وأنتَ لا تقوى، يزدادُ شيئًا فشيئًا حينَ تتذكرُ رهبةَ الظلامِ المطلةِ على نفسكَ الحائرةِ.
في وسطِ السؤالِ كانت هناكَ كلماتٌ تذكرني بأحداثٍ مرتْ من سنواتٍ، شعرتُ بشجنِ تلكَ اللحظاتِ الجميلةِ وألمِ فقدها فامتزجَ إحساسُ الشجنِ بالألمِ فتحولَ إلى ألمٍ من نوعٍ خاصٍ، ألمٍ راقٍ يربطه بكَ أحداثٌ مرتْ قديمًا مع أشخاصٍ أصبحوا غير موجودينَ الآن، أو يربطكَ بهِ مكانٌ ما مررتَ منهُ بلحظةٍ جميلةٍ فُرسمَ في مخيلتكَ، أو مكانٍ نشأتَ فيهِ فتركتهُ عن طيبِ نفسٍ منكَ أو جراءَ اعتداءٍ عليهِ من قبلِ غاصبٍ.
فهناكَ عالمٌ موازٍ يصنعهُ الألمُ داخلَ الفؤادِ بعيدًا عن كلِّ الصخبِ، عالمٌ على قدرِ ألمهِ فريدٌ ملؤهُ الشجنُ النبيلُ وكأنكَ تسكنُ بمفردكَ بعيدًا عن ذلكَ الكونِ البائسِ، فهناكَ أشياءٌ لا تُحكى ولا توجدُ حروفٌ تنسجُ معانيها، تظلُّ معلقةً بقلبكَ متأرجحةً بين يقينِ التحققِ وشكِّ الوهمِ فتبعثُ آناتٍ تحاولُ أن ترتوي من شريانِ جسدكَ المنهكِ وبعدَ أن ترتوي منكَ رغماً عنكَ تتشابكُ أوجاعُ الجسدِ مع آلامِ الروحِ فترقدُ النفسُ في قاعِ الهزيمةِ.
المتألمونَ الذين يعيشونَ على الحافةِ، هؤلاء لا يربطهم بقلبِ الحياةِ سوى أطرافها، لا ينتظرونَ وربما لا يحلمونَ، يعيشونَ بمفردهم ويموتونَ كذلكَ بقتلِهم الصخبَ، توقفوا عن الاندهاشِ يتألمونَ لدرجةِ الحماقةِ، يراهم الآخرونَ حمقى سفهاءَ أغبياءَ يغرّدونَ بمفردهم، يسيرونَ دونَ أن يلتفتوا إلى وجوهِ البشرِ، لا تعنيهم الحياةُ، يعيشونَ كموتى على قيدِ الحياةِ يأملونَ أن تتوقفَ قلوبُهم فجأةً فيسقطونَ إلى أعلى حيثُ السماءُ، هؤلاء الحمقى يعيشونَ على حافةِ حياةٍ ملكوتٍ آخرَ لا يدركهُ سواهم، فدعوهم وشأنهم، فأجملَ ما في الألمِ أنهُ لا يقبلُ هؤلاء المتطفلينَ على ذواتنا.