من أهم الظواهر القانونية المعاصرة، ظاهرة الانفتاح على التحكيم واتساع آفاقه وطنياً إقليمياً ودولياً، حيث أضحى أحد أهم وسائل حل النزاعات وتحقيق العدالة.
وإذا اعتبرنا التحكيم قضاءً خاصاً أو نظاماً استثنائياً للتقاضي، أم لم تعتبره، فإنه يبقى أكثر الوسائل قرباً من القضاء الرسمي لحل المنازعات ضمن الأصول التي كفلها قانون أصول المحاكمات المدنية والاتفاقيات الدولية.
لقد اندفع التحكيم نحو التكيف مع المعطيات الجديدة للتجارة الدولية العابرة للحدود ليؤمن للنزاعات الناشئة عنها الحلول المناسبة التي تحتاجها والمتسمة بخصائص السرعة والسرية والعدالة الاتفاقية في عالم أصبح غاية في التعقيد نظراً لتعدد أنظمته القانونية والاجتماعية والفلسفية والسياسية والاقتصادية، لذلك شرعت القوانين الدولية وصيغت الاتفاقيات التي وضعت قواعد التحكيم الدولي في متناول الجميع، لاسيما بعدما وضعت الأمم المتحدة نموذجاً للتحكيم الدولي سرعان ما اعتمدته كل دول العالم.
أما على الصعيد الوطني فالتحكيم هو أحد وسائل حل النزاعات في المسائل المدنية والتجارية حيث يختار أطراف النزاع أشخاص موثوقين لحسم النزاعات القائمة أو المستقبلية بعيداً عن طريق القضاء العادي بإصدار حكم ملزم للطرفين فاصل للنزاع وفقاً لمقتضيات القانون. وهذا النظام الخاص والاستثنائي للتقاضي هو ذو طبيعة تعاقدية في نشأته قضائية في نهايته هادفاً لإحقاق الحق وترسيخ العدالة مع المحافظة على العلاقات الودية بين الأطراف. وهذا ما يؤثر إيجاباً على مسيرة وتقدم التجارة الدولية وازدهار الاستثمار( ) وكسب ثقة المودعين في الداخل والخارج وتنمية التطور الاقتصادي ضمن مناخات الثقة والعدالة بعد أن أصبح العالم قرية صغيرة وسوقاً واسعاً للتبادل التجاري.
إن قواعد تنازع القوانين بين الدول شجعت الشركات التجارية عامة والتجار الدوليين خاصة إلى الركون للتحكيم في حل خلافاتهم وتنظم علاقاتهم هرباً من القضاء الوطني وخوفاً من تطبيق قوانين غريبة عليهم، فكان البديل هذا القضاء الخاص الاتفاقي في نشأته القضائي في وظيفته لحل وحسم النزاعات التي حصلت أو قد تحصل بين الأطراف ضمن الأصول والإجراءات القانونية المدنية والتجارية والاتفاقيات الدولية الشارعة.
ومنذ كانت البشرية، قامت معها الصراعات والنزاعات يوم بدأ الإنسان بالتجمعات وتضاربت المصالح الفردية مع الآخرين، فكان لابد من طلب العدالة لتلافي مبدأ القوة وشريعة الغاب، لذلك انساقت المجتمعات الإنسانية غريزياً إلى تعيين من يفصل بينها وفقاً للعدل والإنصاف لإحقاق الحق حيث أثبت التاريخ أن التحكيم قد ظهر في كل مكان على الكرة الأرضية، لأن فكرة القانون المتجذرة في الضمير الإنساني لا تنفصل عن فكرة النزاع والصراع . فالقانون الطبيعي هو الذي فرض التحكيم على الإنسان قبل إنشاء الدول، فهو طريق العدالة الأولى حيث يتحقق معه السلام والأمان والاستقرار إلى أن أصبحت حاجة مترسخة في الحياة الاجتماعية، وهذا ما يؤكده الواقع العملي الحالي في وجود قضاءين الأول عام وهو قضاء الدولة والثاني خاص وهو قضاء التحكيم بعد أن شهد هذا الأخير تطورات واسعة وسريعة سيجعله في القريب العاجل خاصة في مضمار التجارة الدولية هو الأصل، بينما يصبح قضاء الدولة هو الاستثناء. رغم أن الحقيقة الواقعية هي تزاحم قضاء الدولة في المجالين الداخلي والدولي مع التحكيم في النهوض بنفس الوظيفة القضائية وبنفس الأدوات الإجرائية والتجاذب المستمر بينهما سواء من جهة أخذ قضاء الدولة بالأسلوب التحكيمي القائم على الوفاق أو بأخذ التحكيم بأدوات قضاء الدولة على المستوى التنظيمي أو الإجرائي بما أصبح يقرب كليهما من صيغة مشتركة للقضاء اصطلح عليه بالنزاع النمطي أي وجود فكرة مسبقة شائعة بالعلاقة غير المتكافئة بين مؤسستي القضاء والتحكيم، من خلال وجود ولاية لقضاء الدولة على التحكيم واعتباره قضاءً منقوصاً من عنصر النفاذ الذي تكمله الدولة بتدخل قضاءها الرسمي.
ورغم أن طبيعة التحكيم العقدية النشأة القضائية الوظيفية إلا أن التحكيم يفتقر إلى مرجعية عمومية مستمدة من سيادة الدولة وسلطانها والتي تثبت للقضاء وحده، حيث يعتبر القضاء تابعاً من توابع السيادة، خاصة أن الأحكام تصدر باسم الشعب وهكذا انقلب التحكيم من قضاء ذي ولاية إلى محل لولاية القضاء يمارس عليه من خلال رقابة شاملة لكامل النشاط التحكيمي في جانبيه الشكلي والإجرائي، بداية مع الرقابة على مشروعية اتفاق التحكيم ومقبوليته مروراً بالتزام أصول وإجراءات التقاضي والقواعد القانونية المتعلقة بالنظام العام والمبادئ الأساسية لأصول المحاكمة، لاسيما المتعلقة بحق الدفاع وتعليل الحكم، وصولاً إلى صدور القرار التحكيمي وضرورة إعطاءه الصيغة التنفيذية من المحكمة المختصة حيث لا يكون قابلاً للتنفيذ إلا بأمر على عريضة يصدره رئيس الغرفة الابتدائية المختص. حيث بصدور القرار التحكيمي وفقاً للأصول القانونية يخرج النزاع من يد المحكم وبالتالي تنتهي المنازعة ويعتبر عمله ذو طابع وقتي.
لكن في المقلب الآخر نتطلع إلى مرونة التحكيم التي تدفع بأطراف النزاع بتشكيل قضاءهم الخاص بدءاً من اتفاقهم على تعيين المحكمين الموثوقين من قبلهم أصحاب الكفاءة والنزاهة والاستقلالية والحياد بعيداً عن القاضي الذي يفرض عليهم فرضاً، مروراً بتحديد نطاق النزاع وحدود الاتفاق وسرعة الفصل في مهلة زمنية لا تتجاوز الستة أشهر، وسرية الجلسات بعيداً عن جلسات المحاكم العلنية، والمماطلة والتسويف، وأصول التبليغ وعدم احترام المهل، وكثرة الدعاوى، والعطل القضائية، إضافة إلى تحديد مكان التحكيم وإجراءاته، والقانون الواجب التطبيق، وصولاً لإصدار القرار التحكيمي الفاصل الذي يحوز حجية القضية المحكوم بها بالنسبة للنزاع الذي فصل فيه.
وعليه يكون التحكيم مؤسسة قضائية خاصة يوجدها الخصوم باختيارهم لحسم نزاع قائم فيما بينهم، من خلال مروره بعدة مراحل يلبس في كل منها لباساً ناجعاً ويتخذ طابعاً مختلفاً حيث لا يعتبر اتفاقاً محضاً ولا قضاءً محضاً إنما هو نظام خاص استثنائي للتقاضي أوله اتفاق وأوسطه إجراء وآخره حكم كحكم القضاء.
وإن أهم وأميز ما في التحكيم أنه منشئ لقضاء، لأن بنداً في العقد يتوصل لحسم النزاع بقرار تحكيمي يحوز قوة القضية المقضية، في سرعة وسرية وضمن أقصر مهلة وقتية مع استمرار العلاقات الودية.
وهكذا يكون التحكيم متنفساً وضرورة، لاسيما في المعاملات التجارية وخاصة الدولية منها نظراً لأهميته في حسم النزاعات بمرونة بعيداً عن تنازع القوانين وإشكالياتها وقلة الثقة في القضاء والوطني وتفادي المماطلة، والحسم السريع بالتفاهم المتبادل مع احترام عنصري السرعة والائتمان في القانون التجاري وأهمية توفير الوقت والجهد والبذل المادي، وحجم دوران رأس المال وتقليل حجم الخسائر المادية والمعنوية التي تؤثر في سمعة التجار وثقتهم على الصعيدين الوطني والدولي. كل ذلك يعطي الطمأنينة للتجار ويكون ضماناً للشركات الكبرى متعددة الجنسيات لتشجيعها على الاستثمار وضخ رؤوس الأموال مما يجلب النفع العام على الاقتصاد الوطني والدولي خاصة مع قيادة الثورة التكنولوجية التي غيرت وجه العالم وأرست مفاهيم جديدة في كل المجالات والجوانب.
فلا بد للتحكيم أن يتطور معها ولا بد للتشريعات الوطنية والدولية أن تسارع لتماشي هذا التطور التكنولوجي بتطور التشريعات، فنحن أمام مرحلة جديدة لا يجوز معها إلا الحداثة، لأن المستقبل ملك للذين يؤمنون به.